مقتطفات كتاب اختصار علوم الحديث 5
مَسَائِلُ
مَسْأَلَةٌ
التَّائِبُ مِنَ الْكَذِبِ فِي حَدِيثِ النَّاسِ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ خِلَافًا لِأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ كَذَبَ
فِي الْحَدِيثِ مُتَعَمِّدًا، فَنَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي بَكْرٍ الْحُمَيْدِيِّ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ
لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَبَدًا، وَقَالَ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ مَنْ كَذَبَ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ وَجَبَ إِسْقَاطُ مَا تَقَدَّمَ
مِنْ حَدِيثِهِ.
(قُلْتُ): وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ كَفَّرَ مُتَعَمِّدَ الْكَذِبِ فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَتِّمُ قَتْلَهُ، وَقَدْ
حَرَّرْتُ ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ.
مقتطفات كتاب اختصار علوم الحديث 5
وَأَمَّا مَنْ غَلِطَ فِي حَدِيثٍ فَبُيِّنَ لَهُ الصَّوَابُ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
وَالْحُمَيْدِيُّ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَيْضًا، وَتَوَسَّطَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ إِنْ كَانَ عَدَمُ رُجُوعِهِ إِلَى الصَّوَابِ عِنَادًا،
فَهَذَا يَلْتَحِقُ بِمَنْ كَذَبَ عَمْدًا، وَإِلَّا فَلَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ هَاهُنَا يَنْبَغِي التَّحَرُّزُ مِنَ الْكَذِبِ كُلَّمَا أَمْكَنَ، فَلَا يُحَدِّثُ إِلَّا مِنْ أَصْلٍ مُعْتَمَدٍ، وَيَجْتَنِبُ الشَّوَاذَّ
وَالْمُنْكَرَاتِ، فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ مَنْ تَتَبَّعَ غَرَائِبَ الْحَدِيثِ كَذَبَ، وَفِي الْأَثَرِ ”كَفَى بِالْمَرْءِ
إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ”.
مَسْأَلَةٌ
إِذَا حَدَّثَ ثِقَةٌ عَنْ ثِقَةٍ بِحَدِيثٍ، فَأَنْكَرَ الشَّيْخُ سَمَاعَهُ لِذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ، فَاخْتَارَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ
رِوَايَتُهُ عَنْهُ، لِجَزْمِهِ بِإِنْكَارِهِ، وَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي عَدَالَةِ الرَّاوِي عَنْهُ فِيمَا عَدَاهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ لَا
أَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ سَمَاعِي، فَإِنَّهُ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ وَأَمَّا إِذَا نَسِيَهُ، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ يَقْبَلُونَهُ،
وَرَدَّهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، كَحَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ
نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ». قَالَ ابْنُ جُريجَ: فَلَقِيتُ الزُّهْرِيَّ فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ
وَكَحَدِيثِ رَبِيعَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ”قُضِيَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ”
ثُمَّ نَسِيَ سُهَيْلٌ، لِآفَةٍ حَصَلَتْ لَهُ، فَكَانَ يَقُولُ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي.
(قُلْتُ): هَذَا أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنَ الْأَوَّلِ، وَقَدْ جَمَعَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ كِتَابًا فِيمَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ ثُمَّ نَسِيَ.
مَسْأَلَةٌ
وَمَنْ أَخَذَ عَلَى التَّحْدِيثِ أُجْرَةً هَلْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ أَمْ لَا؟ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ لَا
يُكْتَبُ عَنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ خَرْمِ الْمُرُوءَةِ وَتَرَخَّصَ أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنِ، وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَآخَرُونَ، كَمَا تُؤْخَذُ الْأُجْرَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» وَقَدْ أَفْتَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ فَقِيهُ الْعِرَاقِ بِبَغْدَادَ لِأَبِي الْحُسَيْنِ
بْنِ النَّقُورِ بِأَخْذِ الْأُجْرَةِ، لِشَغْلِ الْمُحَدِّثِينَ لَهُ عَنِ التَّكَسُّبِ لِعِيَالِه.
مَسْأَلَةٌ
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ أَعْلَى الْعِبَارَاتِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ أَنْ يُقَالَ ”حُجَّةٌ” أَوْ ”ثِقَةٌ” وَأَدْنَاهَا أَنْ يُقَالَ ”كَذَّابٌ”.
(قُلْتُ)
وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ يَعْسُرُ ضَبْطُهَا، وَقَدْ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو عَلَى مَرَاتِبَ مِنْهَا وَثَمَّ اصْطِلَاحَاتٌ
لِأَشْخَاصٍ، يَنْبَغِي التَّوْقِيفُ عَلَيْهَا.
مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ إِذَا قَالَ فِي الرَّجُلِ: ”سَكَتُوا عَنْهُ” أَوْ ”فِيهِ نَظَرٌ” فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي أَدْنَى الْمَنَازِلِ
وَأَرْدَئِهَا عِنْدَهُ، وَلَكِنَّهُ لَطِيفُ الْعِبَارَةِ فِي التَّجْرِيحِ، فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: إِذَا قُلْتُ ”لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ” فَهُوَ ثِقَةٌ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ إِذَا قِيلَ ”صَدُوقٌ” أَوْ ”مَحَلُّهُ
الصِّدْقُ” أَوْ ”لَا بَأْسَ بِهِ” فَهُوَ مِمَّنْ يَكْتُبُ حَدِيثَهُ وَيَنْظُرُ فِيهِ.
وَرَوَى ابْنُ الصَّلَاحِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ الْمِصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُتْرَكُ الرَّجُلُ حَتَّى يَجْتَمِعَ الْجَمِيعُ عَلَى
تَرْكِ حَدِيثِهِ.
وَقَدْ بَسَطَ ابْنُ الصَّلَاحِ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ وَالْوَاقِفُ عَلَى عِبَارَاتِ الْقَوْمِ يَفْهَمُ مَقَاصِدَهُمْ بِمَا عَرَفَ
مِنْ عِبَارَتِهِمْ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَبِقَرَائِنِ تُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
مقتطفات كتاب اختصار علوم الحديث 5
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ فُقِدَتْ شُرُوطُ الْأَهْلِيَّةِ فِي غَالِبِ أَهْلِ زَمَانِنَا، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُرَاعَاةُ اتِّصَالِ
السِّلْسِلَةِ فِي الْإِسْنَادِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ مَشْهُورًا بِفِسْقٍ وَنَحْوِهِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا عَنْ
ضَبْطِ سَمَاعِهِ مِنْ مَشَايِخِهِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهَذَا الشَّأْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: كَيْفِيَّةُ سَمَاعِ الْحَدِيثِ وَتَحَمُّلِهِ وَضَبْطِهِ
يَصِحُّ تَحَمُّلُ الصِّغَارِ الشَّهَادَةَ وَالْأَخْبَارَ، وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ إِذَا أَدَّوْا مَا حَمَلُوهُ فِي حَالِ كَمَالِهِمْ،
وَهُوَ الِاحْتِلَامُ وَالْإِسْلَامُ.
وَيَنْبَغِي الْمُبَارَاةُ إِلَى إِسْمَاعِ الْوِلْدَانِ الْحَدِيثَ النَّبَوِيَّ وَالْعَادَةُ الْمُطَّرِدَةُ فِي أَهْلِ هَذِهِ الْأَعْصَارِ
وَمَا قَبْلَهَا بِمُدَدٍ مُتَطَاوِلَةٍ أَنَّ الصَّغِيرَ يُكْتَبُ لَهُ حُضُورٌ إِلَى تَمَامِ خَمْسِ سِنِينَ مِنْ عُمْرِهِ، ثُمَّ بَعْدَ
ذَلِكَ يُسَمَّى سَمَاعًا، وَاسْتَأْنَسُوا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ «أَنَّهُ عَقَلَ مَجَّةً مَجَّهَا رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ مِنْ دَلْوٍ فِي دَارِهِمْ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ
فَجَعَلُوهُ فَرْقًا بَيْنَ السَّمَاعِ وَالْحُضُورِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِ سِنِينَ.
وَضَبَطَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ بِسِنِّ التَّمْيِيزِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الدَّابَّةِ وَالْحِمَارِ، وَقَالَ بَعْضُ
النَّاسِ: لَا يَنْبَغِي السَّمَاعُ إِلَّا بَعْدَ الْعِشْرِينَ سَنَةً وَقَالَ: بَعْضُ عَشْرٌ، وَقَالَ آخَرُونَ: ثَلَاثُونَ وَالْمَدَارُ
فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى التَّمْيِيزِ، فَمَتَى كَانَ الصَّبِيُّ يَعْقِلُ كُتِبَ لَهُ سَمَاعٌ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو: وَبَلَغَنَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ صَبِيًّا ابْنَ أَرْبَعِ سِنِينَ
قَدْ حُمِلَ إِلَى الْمَأْمُونِ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَنَظَرَ فِي الرَّأْيِ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا جَاعَ يَبْكِي.
[أَقْسَامُ تَحَمُّلِ الْحَدِيثِ]
وَأَنْوَاعُ تَحَمُّلِ الْحَدِيثِ ثَمَانِيَةٌ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: السَّمَاعُ
وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ لَفْظِ الْمُسْمَعِ حِفْظًا، أَوْ مِنْ كِتَابٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: فَلَا خِلَافَ حِينَئِذٍ أَنْ يَقُولَ السَّامِعُ
”حَدَّثَنَا”، وَ”أَخْبَرَنَا”، و”أَنْبَأَنَا” و”سَمِعْتُ”، وَ”قَالَ لَنَا”، وَ”ذَكَرَ فُلَانٌ”.
وَقَالَ الْخَطِيبُ: أَرْفَعُ الْعِبَارَاتِ ”سَمِعْتُ”، ثُمَّ ”حَدَّثَنَا”، و”حَدَّثَنِي”، (قَالَ) وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
لَا يَكَادُونَ يُخْبِرُونَ عَمَّا سَمِعُوهُ مِنَ الشَّيْخِ إِلَّا بِقَوْلِهِمْ ”أَخْبَرَنَا”، وَمِنْهُمْ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ،
وهُشَيْمُ (بْنُ بَشِيرٍ)، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ،
وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ”حَدَّثَنَا” وَ”أَخْبَرَنَا” أَعْلَى مِنْ ”سَمِعْتُ”; لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَقْصِدُهُ بِالْإِسْمَاعِ،
بِخِلَافِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
”حَاشِيَةٌ” قُلْتُ بَلْ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَعْلَى الْعِبَارَاتِ عَلَى هَذَا أَنْ يَقُولَ ”حَدَّثَنِي”، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ ”حَدَّثَنَا”
أَوْ ”أَخْبَرَنَا”، قَدْ لَا يَكُونُ قَصْدُهُ الشَّيْخَ بِذَلِكَ أَيْضًا; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي:
الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ حِفْظًا أَوْ مِنْ كِتَابٍ
وَهُوَ ”الْعَرْضُ” عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالرِّوَايَةُ بِهَا سَائِغَةٌ عَنِ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا عِنْدَ شُذَّاذٍ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ وَمُسْتَنَدُ
الْعُلَمَاءِ حَدِيثُ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ وَهِيَ دُونَ السَّمَاعِ مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ وَعَنْ مَالِكٍ وَأَبِي
حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ أَنَّهَا أَقْوَى وَقِيلَ هُمَا سَوَاءٌ، وَيُعْزَى ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْكُوفَةِ، وَإِلَى مَالِكٍ
أَيْضًا وَأَشْيَاخِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَإِلَى اخْتِيَارِ الْبُخَارِيِّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمَشْرِقِ.
فَإِذَا حَدَّثَ بِهَا يَقُولُ ”قَرَأْتُ” أَوْ قُرِئَ عَلَى فُلَانٍ وَأَنَا أَسْمَعُ فَأُقِرُّ بِهِ” أَوْ ”أَخْبَرَنَا” أَوْ ”حَدَّثَنَا قِرَاءَةً عَلَيْهِ”،
وَهَذَا وَاضِحٌ، فَإِنْ أَطْلَقَ ذَلِكَ جَازَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالْبُخَارِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَالزُّهْرِيِّ وَسُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، وَمُعْظَمِ الْحِجَازِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ سَوَّغَ ”سَمِعْتُ” أَيْضًا، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَحْمَدُ،
وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
أَنْ يُجَوِّزَ ”أَخْبَرَنَا”، وَلَا يُجَوِّزَ ”حَدَّثَنَا” وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا،
وَجُمْهُورُ الْمَشَارِقَةِ، بَلْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَكْثَرِ الْمُحَدِّثِينَ وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ
الشَّيْخُ أَبُو عَمْرٍو، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: وَهُوَ الشَّائِعُ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ.
”فَرْعٌ” وَلَا يَشْتَرِطُ أَنْ يُقِرَّ الشَّيْخُ بِمَا قُرِئَ عَلَيْهِ نُطْقًا، بَلْ يَكْفِي سُكُوتَهُ وَإِقْرَارَهُ عَلَيْهِ، عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَقَالَ
آخَرُونَ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: لَا بُدَّ مِنِ اسْتِنْطَاقِهِ بِذَلِكَ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ
الصَّبَّاغِ، وَسَلِيمٌ الرَّازِيُّ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ لَمْ تَجُزْ الرِّوَايَةُ، وَيَجُوزُ الْعَمَلُ بِمَا سَمِعَ عَلَيْه
”فَرْعٌ” قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَالْحَاكِمُ يَقُولُ: فِيمَا قُرِئَ عَلَى الشَّيْخِ وَهُوَ وَحْدَهُ ”حَدَّثَنِي”، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ
”حَدَّثَنَا”، وَفِيمَا قَرَأَهُ عَلَى الشَّيْخِ وَحْدَهُ ”أَخْبَرَنِي”، فَإِنْ قَرَأَهُ غَيْرُهُ ”أَخْبَرَنَا”
مقتطفات كتاب اختصار علوم الحديث 5
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا حَسَنٌ فَائِقٌ، فَإِنْ شَكَّ أَتَى بِالْمُتَحَقِّقِ، وَهُوَ الْوَحْدَةُ ”حَدَّثَنِي” أَوْ ”أَخْبَرَنِي”،
عِنْدَ ابْنِ الصَّلَاحِ وَالْبَيْهَقِيِّ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ يَأْتِي بِالْأَدْنَى، وَهُوَ ”حَدَّثَنَا” أَوْ ”أَخْبَرَنَا”
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ مُسْتَحَبٌّ، لَا مُسْتَحَقٌّ، عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ كَافَّة.
”فَرْعٌ” اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ سَمَاعِ مَنْ يَنْسَخُ أَوْ إِسْمَاعِهِ فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَأَبُو
إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّبْغِيُّ يَقُولُ ”حَضَرْتُ”، وَلَا يَقُولُ ”حَدَّثَنَا”
وَلَا ”أَخْبَرَنَا” وَجَوَّزَهُ مُوسَى بْنُ هَارُونَ الْحَافِظُ.
وَكَانَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَنْسَخُ، وَهُوَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ كَتَبْتُ حَدِيثَ عَارِمٍ وَعَمْرِو بْنِ مَرْزُوقٍ، وَحَضَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَهُوَ شَابٌّ، فَجَلَسَ إِسْمَاعِيلُ
الصَفَّارُ وَهُوَ يُمْلِي، وَالدَّارَقُطْنِيُّ يَنْسَخُ جُزْءًا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ لَا يَصِحُّ سَمَاعُكَ وَأَنْتَ تَنْسَخُ،
فَقَالَ: فَهْمِي لِلْإِمْلَاءِ بِخِلَافِ فَهْمِكِ، فَقَالَ لَهُ كَمْ أَمْلَى الشَّيْخُ حَدِيثًا إِلَى الْآنَ؟ فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ ثَمَانِيَةَ
عَشَرَ حَدِيثًا، ثُمَّ سَرَدَهَا كُلَّهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، بِأَسَانِيدِهَا وَمُتُونِهَا، فَتَعَجَّبَ النَّاسُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ
شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ- تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ- يَكْتُبُ فِي مَجْلِسِ السَّمَاعِ، وَيَنْعَسُ فِي بَعْضِ
الْأَحْيَانِ، وَيَرُدُّ عَلَى الْقَارِئِ رَدًّا جَيِّدًا بَيِّنًا وَاضِحًا، بِحَيْثُ يَتَعَجَّبُ الْقَارِئُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُغَلِّطُ فِيمَا فِي يَدِهِ
وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ، وَالشَّيْخُ نَاعِسٌ وَهُوَ أَنْبَهُ مِنْهُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَهُوَ شَابٌّ،
فَجَلَسَ إِسْمَاعِيلُ الصَفَّارُ وَهُوَ يُمْلِي، وَالدَّارَقُطْنِيُّ يَنْسَخُ جُزْءًا، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ لَا يَصِحُّ
سَمَاعُكَ وَأَنْتَ تَنْسَخُ، فَقَالَ: فَهْمِي لِلْإِمْلَاءِ بِخِلَافِ فَهْمِكِ، فَقَالَ لَهُ: كَمْ أَمْلَى الشَّيْخُ حَدِيثًا إِلَى الْآنَ؟
فَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، ثُمَّ سَرَدَهَا كُلَّهَا عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، بِأَسَانِيدِهَا وَمُتُونِهَا، فَتَعَجَّبَ
النَّاسُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ- تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ- يَكْتُبُ فِي مَجْلِسِ السَّمَاعِ، وَيَنْعَسُ فِي
بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَيَرُدُّ عَلَى الْقَارِئِ رَدًّا جَيِّدًا بَيِّنًا وَاضِحًا، بِحَيْثُ يَتَعَجَّبُ الْقَارِئُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُغَلِّطُ فِيمَا
فِي يَدِهِ وَهُوَ مُسْتَيْقِظٌ، وَالشَّيْخُ نَاعِسٌ وَهُوَ أَنْبَهُ مِنْهُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَكَذَلِكَ التَّحَدُّثُ فِي مَجْلِسِ السَّمَاعِ، وَمَا إِذَا كَانَ الْقَارِئُ سَرِيعَ الْقِرَاءَةِ، أَوْ كَانَ
السَّامِعُ بَعِيدًا مِنَ الْقَارِئِ ثُمَّ اخْتَارَ أَنْ يُغْتَفَرَ الْيَسِيرُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَفْهَمُ مَا يَقْرَأُ مَعَ النَّسْخِ
فَالسَّمَاعُ صَحِيحٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْبِرَ ذَلِكَ بِالْإِجَازَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ.
مقتطفات كتاب اختصار علوم الحديث 5
هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي زَمَانِنَا الْيَوْمَ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ السَّمَاعِ مَنْ يَفْهَمُ وَمَنْ لَا يَفْهَمُ، وَالْبَعِيدُ مِنَ الْقَارِئِ،
وَالنَّاعِسُ، وَالْمُتَحَدِّثُ، وَالصِّبْيَانُ الَّذِينَ لَا يَنْضَبِطُ أَمْرُهُمْ، بَلْ يَلْعَبُونَ غَالِبًا، وَلَا يَشْتَغِلُونَ بِمُجَرَّدِ السَّمَاعِ،
وَكُلُّ هَؤُلَاءِ قَدْ كَانَ يُكْتَبُ لَهُمْ السَّمَاعُ بِحَضْرَةِ شَيْخِنَا الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَبَلَغَنِي عَنِ الْقَاضِي تَقِيِّ الدِّينِ سُلَيْمَانَ الْمَقْدِسِيِّ أَنَّهُ زُجِرَ فِي مَجْلِسِهِ الصِّبْيَانُ عَنِ اللَّعِبِ، فَقَالَ:
لَا تَزْجُرُوهُمْ، فَإِنَّا سَمِعْنَا مِثْلَهُمْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ الْعَلَمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: يَكْفِيكَ مِنَ الْحَدِيثِ شَمُّهُ وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ
مِنَ الْحُفَّاظِ وَقَدْ كَانَتْ الْمَجَالِسُ تُعْقَدُ بِبَغْدَادَ، وَبِغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، فَيَجْتَمِعُ الْفِئَامُ مِنَ النَّاسِ، بَلْ الْأُلُوفُ
الْمُؤَلَّفَةُ، وَيَصْعَدُ الْمُسْتَمْلِي عَلَى الْأَمَاكِنِ الْمُرْتَفِعَةِ، ويُبِلِّغُونَ عَنِ الْمَشَايِخِ مَا يُمْلُونَ، فَيُحَدِّثُ النَّاسُ
عَنْهُمْ بِذَلِكَ، مَعَ مَا يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَجَامِعِ مِنَ اللَّغَطِ وَالْكَلَامِ وَحَكَى الْأَعْمَشُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي حَلْقَةِ
إِبْرَاهِيمَ، إِذَا لَمْ يَسْمَعْ أَحَدُهُمْ الْكَلِمَةَ جَيِّدًا اسْتَفْهَمَهَا مِنْ جَارِهِ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ عَنْ
عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِلنَّاسِ، وَإِنْ قَدْ تَوَرَّعَ آخَرُونَ وَشَدَّدُوا فِي
ذَلِكَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَيَجُوزُ السَّمَاعُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَرْوُونَ عَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثٍ:
«حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ».
وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَنْ شُعْبَةَ: إِذَا حَدَّثَكَ مَنْ لَا تَرَى شَخْصَهُ فَلَا تَرْوِ عَنْهُ، فَلَعَلَّهُ شَيْطَانٌ قَدْ تَصَوَّرَ فِي
صُورَتِهِ، يَقُولُ حَدَّثَنَا أَخْبَرَنَا وَهَذَا عَجِيبٌ وَغَرِيبٌ جِدًّا، إِذَا حَدَّثَهُ بِحَدِيثٍ ثُمَّ قَالَ: ” لَا تَرْوِهِ عَنِّي”، أَوْ
“رَجَعْتُ عَنْ إِسْمَاعِكَ”، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُبْدِ مُسْتَنَدًا سِوَى الْمَنْعِ الْيَابِسِ، أَوْ أَسْمَعَ قَوْمًا فَخَصَّ
بَعْضُهُمْ، وَقَالَ: ”لَا أُجِيزُ لِفُلَانٍ أَنْ يَرْوِيَ عَنِّي شَيْئًا” فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَلَا الْتِفَاتَ
إِلَى قَوْلِهِ وَقَدْ حَدَّثَ النَّسَائِيُّ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَأَفْتَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ
الْإِسْفَرَايِينِيُّ بِذَلِكَ.
إرسال تعليقك عن طريق :