مقتطفات كتاب اختصار علوم الحديث 7
الرِّوَايَةُ فِي حَالِ الْمُذَاكَرَةِ
هَلْ تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِهَا؟ حَكَى ابْنُ الصَّلَاحِ عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَبِي زُرْعَةَ،
الْمَنْعَ مِنَ التَّحْدِيثِ بِهَا، لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْمُسَاهَلَةِ، وَالْحِفْظُ خَوَّانٌ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلِهَذَا امْتَنَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الْحُفَّاظِ مِنْ رِوَايَةِ مَا يَحْفَظُونَهُ إِلَّا
مِنْ كُتُبِهِمْ، مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ قَالَ: فَإِذَا حَدَّثَ بِهَا فَلْيَقُلْ ”حَدَّثَنَا فُلَانٌ مُذَاكَرَةً”، أَوْ
”فِي الْمُذَاكَرَةِ”، وَلَا يُطْلِقُ ذَلِكَ، فَيَقَعُ فِي نَوْعٍ مِنَ التَّدْلِيسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مقتطفات كتاب اختصار علوم الحديث 7
وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ عَنِ اثْنَيْنِ، جَازَ ذِكْرُ ثِقَةٍ مِنْهُمَا وَإِسْقَاطُ الْآخَرِ، ثِقَةً كَانَ أَوْ ضَعِيفًا
وَهَذَا صَنِيعُ مُسْلِمٍ فِي ابْنِ لَهِيعَةَ غَالِبًا وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ فَلَا يُسْقِطُهُ، بَلْ يَذْكُرُهُ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: آدَابُ الْمُحَدِّثِ
وَقَدْ أَلَّفَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابًا سَمَّاهُ ”الْجَامِعُ لِآدَابِ الشَّيْخِ وَالسَّامِعِ”.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ مُهِمَّاتٌ فِي عُيُونِ الْأَنْوَاعِ الْمَذْكُورَةِ.
قَالَ ابْنُ خَلَّادٍ وَغَيْرُهُ: يَنْبَغِي لِلشَّيْخِ أَنْ لَا يَتَصَدَّى لِلْحَدِيثِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِكْمَالِ خَمْسِينَ سَنَةً،
وَقَالَ: غَيْرُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقَدْ أَنْكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ ذَلِكَ، بِأَنَّ أَقْوَامًا حَدَّثُوا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ،
بَلْ قَبْلَ الثَّلَاثِينَ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، ازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِهِ أَحْيَاءٌ.
قَالَ ابْنُ خَلَّادٍ: فَإِذَا بَلَغَ الثَّمَانِينَ أَحْبَبْتَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اخْتَلَطَ.
وَقَدْ اسْتَدْرَكُوا عَلَيْهِ بِأَنْ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ حَدَّثُوا بَعْدَ هَذَا السِّنِّ، مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ، وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى، وَخَلْقٌ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ حَدَّثَ آخَرُونَ بَعْدَ
اسْتِكْمَالِ مِائَةِ سَنَةٍ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، وَأَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الهُجَيْمِيُّ،
وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ- أَحَدُ الْأَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ- وَجَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ.
لَكِنْ إِذَا كَانَ الِاعْتِمَادِ عَلَى حِفْظِ الشَّيْخِ الرَّاوِي، فَيَنْبَغِي الِاحْتِرَازُ مِنْ اخْتِلَاطِهِ إِذَا طَعَنَ فِي السِّنِّ.
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَى حِفْظِ غَيْرِهِ وَحِفْظِهِ وَضَبْطِهِ، فَهَا هُنَا كُلَّمَا كَانَ السِّنُّ عَالِيًا كَانَ النَّاسُ
أَرْغَبَ فِي السَّمَاعِ عَلَيْهِ كَمَا اتَّفَقَ لِشَيْخِنَا أَبِي الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْحَجَّارِ، فَإِنَّهُ جَاوَزَ الْمِائَةَ
مُحَقَّقًا، سَمَّعَ عَلَى الزَّبِيدِيِّ سَنَةَ ثَلَاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ، وَأَسْمَعَهُ فِي سَنَةِ ثَلَاثِينَ وَسَبْعِ
مِائَةٍ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا عَامِّيًّا، لَا يَضْبِطُ شَيْئًا، وَلَا يَتَعَقَّلُ كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِي الظَّاهِرَةِ، وَمَعَ هَذَا تَدَاعَى
النَّاسُ إِلَى السَّمَاعِ مِنْهُ عِنْدَ تَفَرُّدِهِ عَنِ الزَّبِيدِيِّ، فَسَمِعَ مِنْهُ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ.
مقتطفات كتاب اختصار علوم الحديث 7
قَالُوا: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ جَمِيلَ الْأَخْلَاقِ حَسِنَ الطَّرِيقَةِ، صَحِيحَ النِّيَّةِ فَإِنْ عَزَبَتْ نِيَّتُهُ عَنِ الْخَيْرِ
فَلْيَسْمَعْ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يُرْشِدُ إِلَيْهِ، قَالَ: بَعْضُ السَّلَفِ طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إِلَّا لِلَّهِ.
وَقَالُوا: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحَدِّثَ بِحَضْرَةِ مَنْ هُوَ أَوْلَى سِنًّا أَوْ سَمَاعًا.
بَلْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ التَّحْدِيثَ، لِمَنْ فِي الْبَلَدِ أَحَقَّ مِنْهُ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَيُرْشِدَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ
الدِّينَ النَّصِيحَةُ.
قَالُوا: لَا يَنْبَغِي عَقْدُ مَجْلِسِ التَّحْدِيثِ، وَلْيَكُنْ الْمُسْمِعُ عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ، كَمَا كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا
حَضَرَ مَجْلِسَ التَّحْدِيثِ، تَوَضَّأَ، وَرُبَّمَا اغْتَسَلَ، وَتَطَيَّبَ،وَلَبِسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ، وَعَلَاهُ الْوَقَارُ وَالْهَيْبَةُ، وَتَمَكَّنَ
فِي جُلُوسِهِ، وَزَبَرَ مَنْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ.
وَيَنْبَغِي افْتِتَاحُ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ (شَيْءٍ) مِنَ الْقُرْآنِ، تَبَرُّكًا وَتَيَمُّنًا بِتِلَاوَتِهِ، ثُمَّ بَعْدَهُ التَّحْمِيدُ الْحَسِنُ التَّامُّ، وَالصَّلَاةُ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلْيَكُنْ الْقَارِئُ حَسِنَ الصَّوْتِ، جَيِّدَ الْأَدَاءِ، فَصِيحَ الْعِبَارَةِ، وَكُلَّمَا مَرَّ بِذِكْرِ النَّبِيِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ الْخَطِيبُ: وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ، وَإِذَا مَرَّ بِصِحَابِيٍّ تَرَضَّى عَنْهُ.
وَحَسُنَ أَنْ يُثْنِيَ عَلَى شَيْخِهِ، كَمَا كَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ حَدَّثَنِي الْحَبْرُ الْبَحْرُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَانَ وَكِيعٌ يَقُولُ حَدَّثَنِي
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَدِيثِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَذْكُرَ أَحَدًا بِلَقَبٍ يَكْرَهُهُ، فَأَمَّا لَقَبٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ فَلَا بَأْسَ.
النوع الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: آدَابُ طَالِبِ الْحَدِيثِ
يَنْبَغِي لَهُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ، إِخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا يُحَاوِلُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَكُنْ قَصْدُهُ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا،
فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمُهِمَّاتِ الزَّجْرِ الشَّدِيدِ وَالتَّهْدِيدِ الْأَكِيدِ عَلَى ذَلِكَ.
وَلْيُبَادِرْ إِلَى سَمَاعِ الْعَالِي فِي بَلَدِهِ، فَإِذَا اسْتَوْعَبَ ذَلِكَ انْتَقَلَ إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى أَعْلَى مَا يُوجَدُ
فِي الْبُلْدَانِ، وَهُوَ الرِّحْلَةُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمُهِمَّاتِ مَشْرُوعِيَّةَ ذَلِكَ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ-: إِنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ الْبَلَاءَ عَنْ
هَذِهِ الْأُمَّةِ بِرِحْلَةِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
قَالُوا: وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَحَادِيثِ.
كَانَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْحَافِي يَقُولُ يَا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ أَدُّوا زَكَاةَ الْحَدِيثَ، مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ حَدِيثٍ خَمْسَةَ أَحَادِيثَ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ المُلَائِيُّ: إِذَا بَلَغَكَ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ فَاعْمَلْ بِهِ وَلَوْ مَرَّةً، تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ.
قَالَ وَكِيعٌ: إِذَا أَرَدْتَ حِفْظَ الْحَدِيثِ فَاعْمَلْ بِهِ.
قَالُوا وَلَا يُطَوِّلُ عَلَى الشَّيْخِ فِي السَّمَاعِ حَتَّى يُضْجِرَهُ قَالَ الزُّهْرِيُّ إِذَا طَالَ الْمَجْلِسُ كَانَ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ نَصِيبٌ.
وَلْيُفِدْ غَيْرَهُ مِنَ الطَّلَبَةِ، وَلَا يَكْتُمُ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ، فَقَدْ جَاءَ الزَّجْرُ عَنْ ذَلِكَ.
قَالُوا: وَلَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَكْتُبَ عَمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ
قَالَ وَكِيعٌ: لَا يَنْبُلُ الرَّجُلُ حَتَّى يَكْتُبَ عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ، وَمَنْ هُوَ مِثْلَهُ، وَمَنْ هُوَ دُونَهُ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَيْسَ بِمُوَفَّقٍ مَنْ ضَيَّعَ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهِ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الشُّيُوخِ، لِمُجَرَّدِ الْكَثْرَةِ وَصِيتِهَا
قَالَ: وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيِّ إِذَا كَتَبْتَ فَقَمِّشْ، وَإِذَا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: ثُمَّ لَا يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مُجَرَّدِ سَمَاعِهِ وَكُتُبِهِ، مِنْ غَيْرِ فَهْمِهِ
وَمَعْرِفَتِهِ، فَيَكُونُ قَدْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَظْفَرْ بِطَائِلٍ.
ثُمَّ حَثَّ عَلَى سَمَاعِ الْكُتُبِ الْمُفِيدَةِ مِنَ الْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ وَغَيْرِهَا.
مقتطفات كتاب اختصار علوم الحديث 7
النوع التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: مَعْرِفَةُ الْإِسْنَادِ الْعَالِي وَالنَّازِلِ
وَلَمَّا كَانَ مَعْرِفَةُ الْإِسْنَادِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ يُمْكِنُهَا أَنْ تُسْنِدَ
عَنْ نَبِيِّهَا إِسْنَادًا مُتَّصِلًا غَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
فَلِهَذَا كَانَ طَلَبُ الْإِسْنَادِ الْعَالِي مُرَغَّبًا فِيهِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الْإِسْنَادُ الْعَالِي سُنَّةٌ عَمَّنْ سَلَفَ.
وَقِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: بَيْتٌ خَالِي، وَإِسْنَادٌ عَالِي.
وَلِهَذَا تَدَاعَتْ رَغَبَاتُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ النُّقَّادِ، وَالْجَهَابِذَةِ الْحُفَّاظِ إِلَى الرِّحْلَةِ إِلَى أَقْطَارِ الْبِلَادِ، طَلَبًا لِعُلُوِّ
الْإِسْنَادِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَنَعَ مِنْ جَوَازِ الرِّحْلَةِ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنَ الْعُبَّادِ، فِيمَا حَكَاهُ الرَّامَهُرْمَزِيُّ فِي كِتَابِهِ الْفَاصِلِ.
ثُمَّ إِنَّ عُلُوَّ الْإِسْنَادِ أَبَعْدُ مِنَ الْخَطَأِ وَالْعِلَّةِ مِنْ نُزُولِهِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: كُلَّمَا طَالَ الْإِسْنَادُ كَانَ النَّظَرُ فِي التَّرَاجِمِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ أَكْثَرَ، فَيَكُونُ الْأَجْرُ عَلَى
قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، وَهَذَا لَا يُقَابِلُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْعُلُوِّ مَا كَانَ قَرِيبًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
فَأَمَّا الْعُلُوُّ بِقُرْبِهِ إِلَى إِمَامٍ حَافِظٍ، أَوْ مُصَنِّفٍ، أَوْ بِتَقَدُّمِ السَّمَاعِ فَتِلْكَ أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِوٍ هَاهُنَا عَلَى (الْمُوَافَقَةِ)، وَهِيَ انْتِهَاءُ الْإِسْنَادِ إِلَى شَيْخِ مُسْلِمٍ مَثَلًا (وَالْبَدَلُ)،
وَهُوَ انْتِهَاؤُهُ إِلَى شَيْخِ شَيْخِهِ أَوْ مِثْلِ شَيْخِهِ (وَالْمُسَاوَاةُ) وَهُوَ أَنْ تُسَاوِيَ فِي إِسْنَادِك الْحَدِيثَ
لِمُصَنَّفٍ (وَالْمُصَافَحَةُ) وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ نُزُولِكَ عَنْهُ بِدَرَجَةٍ حَتَّى كَأَنَّهُ صَافَحَك بِهِ وَسَمِعْتَهُ مِنْهُ.
وَهَذِهِ الْفُنُونُ تُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُ، قَدْ صَنَّفَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ
فِي ذَلِكَ مُجَلَّدَاتٍ وَعِنْدِي أَنَّهُ نَوْعٌ قَلِيلُ الْجَدْوَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَقِيَّةِ الْفُنُونِ.
فَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَالِيَ مِنَ الْإِسْنَادِ مَا صَحَّ سَنَدُهُ، وَإِنْ كَثُرَتْ رِجَالُهُ، فَهَذَا اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ، وَمَاذَا
يَقُولُ هَذَا الْقَائِلُ فِيمَا إِذَا صَحَّ الْإِسْنَادَانِ، لَكِنْ أَقْرَبَ رِجَالًا؟ وَهَذَا الْقَوْلُ مَحْكِيٌّ عَنِ الْوَزِيرِ نِظَامِ
الْمُلْكِ، وَعَنِ الْحَافِظِ السَّلَفِيِّ.
وَأَمَّا النُّزُولُ فَهُوَ ضِدُّ الْعُلُوِّ، وَهُوَ مَفْضُولٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُلُوِّ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رِجَالُ الْإِسْنَادِ
النَّازِلِ أَجَلَّ مِنْ رِجَالِ الْعَالِي، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ ثِقَاتٍ.
كَمَا قَالَ وَكِيعٌ لِأَصْحَابِهِ: أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكُمْ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَوْ سُفْيَانَ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؟ فَقَالُوا: الْأَوَّلِ، فَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ،
شَيْخٌ عَنْ شَيْخٍ، وَسُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقِيهٌ عَنْ فَقِيهٍ،
وَحَدِيثٌ يَتَدَاوَلُهُ الْفُقَهَاءُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا يَتَدَاوَلُهُ الشُّيُوخُ.
النوع الثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الْمَشْهُورِ
وَالشُّهْرَةُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، فَقَدْ يَشْتَهِرُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَوْ يَتَوَاتَرُ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ.
ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْمَشْهُورُ مُتَوَاتِرًا أَوْ مُسْتَفِيضًا، وَهُوَ مَا زَادَ نَقَلَتَهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ.
وَعَنْ الْقَاضِي الْمَاوَرْدِيِّ أَنَّ الْمُسْتَفِيضَ أَقْوَى مِنَ الْمُتَوَاتِرِ وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مِنْهُ.
وَقَدْ يَكُونُ الْمَشْهُورُ صَحِيحًا، كَحَدِيثِ ”الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَحَسَنًا.
وَقَدْ يَشْتَهِرُ بَيْنَ النَّاسِ أَحَادِيثُ لَا أَصْلَ لَهَا، أَوْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ بِالْكُلِّيَّةِ وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَمَنْ نَظَرَ
فِي كِتَابِ الْمَوْضُوعَاتِ لِأَبِي الْفَرَجِ بْنِ الْجَوْزِيِّ عَرَفَ ذَلِكَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَرْبَعَةُ
أَحَادِيثَ تَدُورُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْأَسْوَاقِ لَا أَصْلَ لَهَا «”مَنْ بَشَّرَنِي بِخُرُوجِ آذَارَ بَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ”» و«”مَنْ آذَى
ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ”» و«”نَحْرُكُمْ يَوْمَ صَوْمِكُمْ”» و«”لِلسَّائِلِ حَقٌّ، وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ”».
النوع الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الْغَرِيبِ مِنَ الْعَزِيزِ
أَمَّا الْغَرَابَةُ فَقَدْ تَكُونُ فِي الْمَتْنِ، بِأَنْ يَتَفَرَّدَ بِرِوَايَتِهِ رَاوٍ وَاحِدٌ، أَوْ فِي بَعْضِهِ، كَمَا إِذَا زَادَ فِيهِ وَاحِدٌ
زِيَادَةً لَمْ يَقُلْهَا غَيْرُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي زِيَادَةِ الثِّقَةِ.
وَقَدْ تَكُونُ الْغَرَابَةُ فِي الْإِسْنَادِ، كَمَا إِذَا كَانَ أَصْلُ الْحَدِيثِ مَحْفُوظًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَوْ وُجُوهٍ، وَلَكِنَّهُ
بِهَذَا الْإِسْنَادِ غَرِيبٌ.
فَالْغَرِيبُ مَا تَفَرَّدَ بِهِ وَاحِدٌ، وَقَدْ يَكُونُ ثِقَةً، وَقَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا، وَلِكُلٍّ حُكْمُهُ.
فَإِنْ اشْتَرَكَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ الشَّيْخِ، سُمِّيَ ”عَزِيزًا”، فَإِنْ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، سُمِّيَ
”مَشْهُورًا”، كَمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ غَرِيبِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ
وَهُوَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِفَهْمِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهِ، لَا بِمَعْرِفَةِ صِنَاعَةِ الْإِسْنَادِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.
قَالَ الْحَاكِمُ: أَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى.
وَأَحْسَنُ شَيْءٍ وُضِعَ فِي ذَلِكَ كِتَابُ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَقَدْ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَشْيَاءَ،
وَتَعَقَّبَهُمَا الْخَطَّابِيُّ، فَأَوْرَدَ زِيَادَاتٍ.
وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الْمُتَقَدِّمُ، وَسَلِيمٌ الرَّازِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَأَجَلُّ كِتَابٍ يُوجَدُ فِيهِ مَجَامِعُ ذَلِكَ كِتَابُ (الصِّحَاحِ) لِلْجَوْهَرِيِّ وَكِتَابُ (النِّهَايَةِ) لِابْنِ الْأَثِيرِ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
النوع الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الْمُسَلْسَلِ
وَقَدْ يَكُونُ فِي صِفَةِ الرِّوَايَةِ، كَمَا إِذَا قَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ ”سَمِعْتُ”، أَوْ ”حَدَّثَنَا”، أَوْ ”أَخْبَرَنَا”، وَنَحْوَ ذَلِكَ أَوْ
فِي صِفَةِ الرَّاوِي، بِأَنْ يَقُولَ حَالَةَ الرِّوَايَةِ قَوْلًا قَدْ قَالَهُ شَيْخُهُ لَهُ، أَوْ يَفْعَلُ فِعْلًا فَعَلَ شَيْخُهُ مِثْلَهُ.
ثُمَّ قَدْ يَتَسَلْسَلُ الْحَدِيثُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، وَقَدْ يَنْقَطِعُ بَعْضُهُ مِنْ أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ.
وَفَائِدَةُ التَّسَلْسُلِ بُعْدُهُ مِنْ التَّدْلِيسِ وَالِانْقِطَاعِ وَمَعَ هَذَا قَلَّمَا يَصِحُّ حَدِيثٌ بِطَرِيقٍ مُسَلْسَلٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ نَاسِخِ الْحَدِيثِ وَمَنْسُوخِهِ
وَهَذَا الْفَنُّ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ هَذَا الْكِتَابِ، بَلْ هُوَ بِأُصُول الْفِقْهِ أَشْبَهُ.
وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ كُتُبًا كَثِيرَةً مُفِيدَةً، مِنْ أَجَلِّهَا كِتَابُ الْحَافِظِ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ الْحَازِمِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَدْ كَانَتْ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَدُ الطُولى، كَمَا وَصَفَهُ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ.
ثُمَّ النَّاسِخُ قَدْ يُعْرَفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَقَوْلِهِ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا»
وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدْ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالتَّأْرِيخِ وَعِلْمِ السِّيرَةِ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا سَلَكَهُ الشَّافِعِيُّ فِي حَدِيثِ:
«أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» وَذَلِكَ قَبْلَ الْفَتْحِ، فِي شَأْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ قُتِلَ بِمُؤْتَةَ، قَبْلَ الْفَتْحِ
بِأَشْهُرٍ، وَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ» وَإِنَّمَا أَسْلَمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ أَبِيهِ فِي الْفَتْحِ.
فَأَمَّا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ ”هَذَا نَاسِخٌ لِهَذَا”، فَلَمْ يَقْبَلْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ،
وَقَدْ يُخْطِئُ فِيهِ، وَقَبِلُوا قَوْلَهُ ”هَذَا كَانَ قَبْلَ هَذَا”; لِأَنَّهُ نَاقِلٌ وَهُوَ ثِقَةٌ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ.
إرسال تعليقك عن طريق :