مقتطفات كتاب اختصار علوم الحديث 8
النوع الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ ضَبْطِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ مَتْنًا وَإِسْنَادًا وَالِاحْتِرَازُ مِنْ التَّصْحِيفِ فِيهَا
فَقَدْ وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ كَثِيرٌ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْحُفَّاظِ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ تَرَسَّمَ بِصِنَاعَةِ الْحَدِيثِ
وَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَقَدْ صَنَّفَ الْعَسْكَرِيُّ فِي ذَلِكَ مُجَلَّدًا كَبِيرًا.
وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ لِمَنْ أَخَذَ مِنْ الصُّحُفِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْخٌ حَافِظٌ يُوقِفُهُ عَلَى ذَلِكَ.
مقتطفات كتاب اختصار علوم الحديث 8
وَمَا يَنْقُلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَحِّفُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَغَرِيبٌ جِدًّا;
لِأَنَّ لَهُ كِتَابًا فِي التَّفْسِيرِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَشْيَاءُ لَا تَصْدُرُ عَنْ صِبْيَانِ الْمَكَاتِبِ، وَأَمَّا مَا وَقَعَ
لِبَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ ذَلِكَ، فَمِنْهُ مَا يَكَادُ اللَّبِيبُ يَضْحَكُ مِنْهُ، كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَمَعَ
طُرُقَ حَدِيثِ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» ثُمَّ أَمْلَاهُ فِي مَجْلِسِهِ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنَ النَّاسِ
فَجَعَلَ يَقُولُ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ البَعِيرُ!، فَافْتُضِحَ عِنْدَهُمْ، وَأَرَّخُوهَا عَنْهُ!!.
وَكَذَا اتَّفَقَ لِبَعْضِ مُدَرِّسِي النِّظَامِيَّةِ بِبَغْدَادَ أَنَّهُ أَوَّلَ يَوْمِ إِجْلَاسِهِ أَوْرَدَ حَدِيثَ: «صَلَاةٌ فِي إِثْرِ
صَلَاةٍ كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ» فَقَالَ: كِنَازٍ فِي غَلَسٍ! فَلَمْ يَفْهَمْ الْحَاضِرُونَ مَا يَقُولُ، حَتَّى أَخْبَرَهُمْ
بِأَنَّهُ تَصَحَّفَ عَلَيْهِ كِتَابٌ فِي عِلِّيِّينَ!!.
وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الصَّلَاحِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً.
وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْكَبِيرُ الْجَهْبَذُ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ- تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ- مِنْ أَبْعَدِ
النَّاسِ عَنْ هَذَا الْمَقَامِ، وَمِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ أَدَاءً لِلْإِسْنَادِ وَالْمَتْنِ، بَلْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ-
فِيمَا نَعْلَمُ- مِثْلُهُ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَيْضًا وَكَانَ إِذَا تَغَرَّبَ عَلَيْهِ أَحَدٌ بِرِوَايَةِ (شَيْءٍ) مِمَّا يَذْكُرُهُ
بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى خِلَافِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُ، يَقُولُ هَذَا مِنَ التَّصْحِيفِ الَّذِي لَمْ يَقِفْ صَاحِبُهُ
إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ الصُّحُفِ وَالْأَخْذِ مِنْهَا.
النوع السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ
وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ فَصْلًا طَوِيلًا مِنْ كِتَابِهِ ”الْأُمِّ” نَحْوًا مِنْ مُجَلَّدٍ.
وَكَذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ، لَهُ فِيهِ مُجَلَّدٌ مُفِيدٌ وَفِيهِ مَا هُوَ غَثٌّ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْعِلْمِ.
وَالتَّعَارُضُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ، كَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ،
فَيُصَارُ إِلَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَقَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ، وَلَكِنْ لَا يَظْهَرُ لِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ،
فَيَتَوَقَّفُ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ وَجْهُ التَّرْجِيحِ بِنَوْعٍ مِنْ أَقْسَامِهِ، أَوْ يَهْجُمُ فَيُفْتِي بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ يُفْتِي
بِهَذَا فِي وَقْتٍ، وَبِهَذَا فِي وَقْتٍ، كَمَا يَفْعَلُ أَحْمَدُ فِي الرِّوَايَاتِ عَنِ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ كَانَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ خُزَيْمَةَ يَقُولُ لَيْسَ ثَمَّ حَدِيثَانِ مُتَعَارِضَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ; وَمَنْ وَجَدَ
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلْيَأْتِنِي لِأُؤَلِّفَ لَهُ بَيْنَهُمَا.
النوع السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الْمَزِيدِ فِي مُتَّصِلِ الْأَسَانِيدِ
وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ رَاوٍ فِي الْإِسْنَادِ رَجُلًا لَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ وَهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ وَقَدْ صَنَّفَ
الْحَافِظُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابًا حَافِلًا قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَفِي بَعْضِ مَا ذَكَرَهُ نَظَرٌ.
وَمَثَّلَ ابْنُ الصَّلَاحِ هَذَا النَّوْعَ بِمَا رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنِي بُسْرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتَ أَبَا إِدْرِيسَ يَقُولُ سَمِعْتُ وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ سَمِعْتَ
أَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ يَقُولُ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ،
وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا» وَرَوَاهُ آخَرُونَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا سُفْيَانَ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ وَهِمَ ابْنُ
الْمُبَارَكِ فِي إِدْخَالِهِ أَبَا إِدْرِيسَ فِي الْإِسْنَادِ وَهَاتَانِ زِيَادَتَانِ.
مقتطفات كتاب اختصار علوم الحديث 8
النوع الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الْخَفِيِّ مِنَ الْمَرَاسِيلِ
وَهُوَ يَعُمُّ الْمُنْقَطِعَ وَالْمُعْضَلَ أَيْضًا وَقَدْ صَنَّفَ الْبَغْدَادِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابَهُ الْمُسَمَّى
(بِالتَّفْصِيلِ لِمُبْهَمِ الْمَرَاسِيلِ)
وَهَذَا النَّوْعُ إِنَّمَا يُدْرِكُهُ نُقَّادُ الْحَدِيثِ وَجَهَابِذَتُهُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا الْحَافِظُ الْمِزِّيُّ إِمَامًا فِي
ذَلِكَ، وَعَجَبًا مِنَ الْعَجَبِ- فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَبَلَّ بِالْمَغْفِرَةِ ثَرَاهُ.
فَإِنَّ الْإِسْنَادَ إِذَا عُرِضَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِمَّنْ لَمْ يُدْرِكْ ثِقَاتِ الرِّجَالِ وَضُعَفَاءَهُمْ، قَدْ يَغْتَرُّ بِظَاهِرِهِ،
وَيَرَى رِجَالَهُ ثِقَاتٍ، فَيَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ، وَلَا يَهْتَدِي لِمَا فِيهِ مِنْ الِانْقِطَاعِ، أَوْ الْإِعْضَالِ، أَوْ الْإِرْسَالِ; لِأَنَّهُ قَدْ
لَا يُمَيِّزُ الصَّحَابِيَّ مِنْ التَّابِعِيِّ وَاللَّهُ الْمُلْهِمُ لِلصَّوَابِ.
وَمَثَّلَ هَذَا النَّوْعَ ابْنُ الصَّلَاحِ بِمَا رَوَى الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ بِلَالٌ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ نَهَضَ وَكَبَّرَ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: لَمْ يَلْقَ الْعَوَّامُ ابْنَ
أَبِي أَوْفَى، يَعْنِي فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا بَيْنَهُمَا، فَيَضْعُفُ الْحَدِيثُ، لِاحْتِمَال أَنَّهُ رَوَاهُ عَنْ رَجُلٍ ضَعِيفٍ عَنْهُ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
النوع التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ: مَعْرِفَةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ
وَالصَّحَابِيُّ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَالِ إِسْلَامِ الرَّائِي، وَإِنْ لَمْ تَطُلْ صُحْبَتُهُ لَهُ،
وَإِنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ شَيْئًا هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، خَلَفًا وَسَلَفًا.
وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ كَافٍ فِي إِطْلَاقِ الصُّحْبَةِ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو زُرْعَةَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِمَّنْ صَنَّفَ
فِي أَسْمَاءِ الصَّحَابَةِ، كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ، وَابْنُ مَنْدَهْ وَأَبِي مُوسَى الْمَدِينِيِّ، وَابْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِهِ ”الْغَابَةُ
فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ”، وَهُوَ أَجْمَعُهَا وَأَكْثَرُهَا فَوَائِدَ وَأَوْسَعُهَا- أَثَابَهُمْ اللَّهُ أَجْمَعِينَ.
قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَقَدْ شَانَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كِتَابَهُ ”الِاسْتِيعَابُ” بِذِكْرِ مَا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ مِمَّا تَلَقَّاهُ
مِنْ كُتُبِ الْأَخْبَارِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا بُدَّ مِنْ إِطْلَاقِ الصُّحْبَةِ مَعَ الرُّؤْيَةِ أَنْ يَرْوِيَ حَدِيثًا أَوْ حَدِيثَيْنِ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَصْحَبَهُ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ، أَوْ يَغْزُوَ مَعَهُ غَزْوَةً أَوْ غَزْوَتَيْنِ وَرَوَى
شُعْبَةُ عَنْ مُوسَى السَّبْلَانِيِّ- وَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا، قَالَ: قُلْتُ لِأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: هَلْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ غَيْرُكَ؟ قَالَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ رَأَوْهُ، فَأَمَّا مَنْ صَحِبَهُ فَلَا
رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِحَضْرَةِ أَبِي زُرْعَةَ.
وَهَذَا إِنَّمَا نَفَى فِيهِ الصُّحْبَةَ الْخَاصَّةَ، وَلَا يَنْفِي مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ كَافٍ
فِي إِطْلَاقِ الصُّحْبَةِ، لِشَرَفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ وَقَدْرِ مَنْ رَآهُ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ وَلِهَذَا جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ: «تَغْزُونَ فَيُقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَكُمْ حَتَّى ذَكَرَ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ» الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ، فِي مُعَاوِيَةَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِيَوْمٍ شَهِدَهُ مُعَاوِيَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ.
مقتطفات كتاب اختصار علوم الحديث 8
فَرْعٌ
وَالصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عُدُولٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لِمَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، وَبِمَا نَطَقَتْ
بِهِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ فِي الْمَدْحِ لَهُمْ فِي جَمِيعِ أَخْلَاقِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَمَا بَذَلُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَرْوَاحُ بَيْنَ يَدَيْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ، وَالْجَزَاءِ الْجَمِيلِ.
وَأَمَّا مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمِنْهُ مَا وَقَعَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ، كَيَوْمِ الْجَمَلِ، وَمِنْهُ مَا كَانَ
عَنْ اجْتِهَادٍ، كَيَوْمِ صِفِّينَ وَالِاجْتِهَادُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَكِنَّ صَاحِبَهُ مَعْذُورٌ، وَإِنْ أَخْطَأَ، وَمَأْجُورٌ أَيْضًا،
وَأَمَّا الْمُصِيبُ فَلَهُ أَجْرَانِ اثْنَانِ، وَكَانَ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ- رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ الصَّحَابَةُ عُدُولٌ إِلَّا مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا: قَوْلٌ بَاطِلٌ مَرْذُولٌ وَمَرْدُودٌ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ عَنِ ابْنِ بِنْتِهِ الْحَسَنِ بْنِ
عَلِيٍّ، وَكَانَ مَعَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ».
وَظَهَرَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي نُزُولِ الْحَسَنِ لِمُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَمْرِ، بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ عَلِيٍّ، وَاجْتَمَعَتْ الْكَلِمَةُ عَلَى
مُعَاوِيَةَ، وَسُمِّيَ ”عَامَ الْجَمَاعَةِ” وَذَلِكَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ فَسَمَّى الْجَمِيعَ ”مُسْلِمِينَ” وَقَالَ تَعَالَى:
{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} فَسَمَّاهُمْ ”مُؤْمِنِينَ” مَعَ الِاقْتِتَالِ.
وَمَنْ كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ مُعَاوِيَةَ? يُقَالُ لَمْ يَكُنْ فِي الْفَرِيقِ مِائَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَجَمِيعُهُمْ
صَحَابَةٌ، فَهُمْ عُدُولٌ كُلُّهُمْ.
وَأَمَّا طَوَائِفُ الرَّوَافِضِ وَجَهْلُهُمْ وَقِلَّةُ عَقْلِهِمْ، وَدَعَاوِيهِمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَفَرُوا إِلَّا سَبْعَةَ عَشَرَ صَحَابِيًّا،
وَسَمَّوْهُمْ فَهُوَ مِنَ الْهَذَيَانِ بِلَا دَلِيلٍ إِلَّا مُجَرَّدَ الرَّأْيِ الْفَاسِدِ، عَنْ ذِهْنٍ بَارِدٍ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ
أَنْ يُرَدَّ وَالْبُرْهَانُ عَلَى خِلَافِهِ أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ، مِمَّا عُلِمَ مِنْ امْتِثَالِهِمْ أَوَامِرَهُ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَفَتْحِهِمْ الْأَقَالِيمَ وَالْآفَاقَ، وَتَبْلِيغِهِمْ عَنْهُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَهِدَايَتِهِمْ النَّاسَ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ،
وَمُوَاظَبَتِهِمْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ، فِي سَائِرِ الْأَحْيَانِ وَالْأَوْقَاتِ، مَعَ الشَّجَاعَةِ
وَالْبَرَاعَةِ، وَالْكَرَمِ وَالْإِيثَارِ، وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ (فِي) أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا يَكُونَ
أَحَدٌ بَعْدَهُمْ مِثْلَهُمْ فِي ذَلِكَ- فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَلَعَنَ مَنْ يَتَّهِمُ الصَّادِقَ وَيُصَدِّقُ الْكَاذِبِينَ-
آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
وَأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ، بَلْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ (أَبِي قُحَافَةَ)
التَّيْمِيُّ، خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُمِّيَ بِالصَّدِيقِ لِمُبَادَرَتِهِ إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ-
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَبْلَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى
الْإِيمَانِ إِلَّا كَانَتْ لَهُ كَبْوَةٌ، إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَمْ» وَقَدْ ذَكَرْتُ سِيرَتَهُ وَفَضَائِلَهُ وَمُسْنَدَهُ وَالْفَتَاوَى
عَنْهُ، فِي مُجَلَّدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
مقتطفات كتاب اختصار علوم الحديث 8
ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، ثُمَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
هَذَا رَأْيُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ حِينَ جَعَلَ عُمَرُ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ، فَانْحَصَرَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ،
وَاجْتَهَدَ فِيهِمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، حَتَّى سَأَلَ النِّسَاءَ فِي خُدُورِهِنَّ، وَالصِّبْيَانَ فِي
الْمَكَاتِبِ، فَلَمْ يَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ أَحَدًا، فَقَدَّمَهُ عَلَى عَلِيٍّ، وَوَلَّاهُ الْأَمْرَ قَبْلَهُ، وَلِهَذَا قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ:
مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَصَدَقَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ، وَجَعَلَ
جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُ ذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ إِلَى تَقْدِيمِ عَلِيٍّ عَلَى عُثْمَانَ وَيُحْكَى عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، لَكِنْ يُقَالُ: إِنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ وَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ،وَنَصَرَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْخَطَّابِيُّ، وَهُوَ
ضَعِيفٌ مَرْدُودٌ بِمَا تَقَدَّمَ.
ثُمَّ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ ثُمَّ أَهْلُ بَدْرٍ، ثُمَّ أَهْلُ أُحُدٍ، ثُمَّ أَهْلُ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَأَمَّا السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، فَقِيلَ هُمْ مَنْ صَلَّى (إِلَى) الْقِبْلَتَيْنِ، وَقِيلَ أَهْلُ بَدْرٍ، وَقِيلَ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ،
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ
قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَآهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَحْوٌ مَنْ سِتِّينَ أَلْفًا
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ: شَهِدَ مَعَهُ حَجَّةَ الْوَدَاعِ أَرْبَعُونَ أَلْفًا، وَكَانَ مَعَهُ بِتَبُوكَ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَقُبِضَ-
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- عَنْ مِائَةٍ أَلْفٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الصَّحَابَةِ.
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: وَأَكْثَرُهُمْ رِوَايَةً سِتَّةٌ أَنَسٌ، وَجَابِرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ.
(قُلْتُ): وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَلَكِنَّهُ تُوُفِّيَ قَدِيمًا، وَلِهَذَا لَمْ يَعُدَّهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
فِي الْعَبَادِلَةِ، بَلْ قَالَ: الْعَبَادِلَةُ أَرْبَعَةٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ.
فَرْعٌ
وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَقِيلَ إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مُطْلَقًا وَمِنَ الْوِلْدَانِ عَلِيٌّ، وَقِيلَ
إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مُطْلَقًا، وَلَا دَلِيَلَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ وَمِنَ الْمَوَالِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَمِنَ الْأَرِقَّاءِ بِلَالٌ وَمِنَ
النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَقِيلَ إِنَّهَا أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقَاتِ فِي أَوَّلِ الْبِعْثَةِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ صَاحِبِ الْمَغَازِي وَجَمَاعَةٍ، وَادَّعَى الثَّعْلَبِيُّ الْمُفَسِّرُ
عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ قَالَ: وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَنْ أَسْلَم بَعْدَهَا.
فَرْعٌ
وَآخِرُ الصَّحَابَةِ مَوْتًا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ثُمَّ أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ اللَّيْثِيُّ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: وَكَانَتْ
وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ فَعَلَى هَذَا هُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِهَا وَيُقَالُ: آخِرُ مَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ ابْنُ عُمَرَ وَقِيلَ جَابِرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ
جَابِرًا مَاتَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِهَا وَقِيلَ سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ وَقِيلَ السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ وَبِالْبَصْرَةِ أَنَسٌ
وَبِالْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَبِالشَّامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ بِحِمْصَ وَبِدِمَشْق وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ وَبِمِصْرَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جُزْءٍ وَبِالْيَمَامَةِ الْهِرْمَاسُ بْنُ زِيَادٍ، وَبِالْجَزِيرَةِ الْعُرْسُ بْنُ عَمِيرَةَ وَبِإِفْرِيقِيَّةَ
رُوَيفعُ بْنُ ثَابِتٍ وَبِالْبَادِيَةِ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَرْعٌ
وَتُعْرَفُ صُحْبَةُ الصَّحَابَةِ تَارَةً بِالتَّوَاتُرِ، وَتَارَةً بِأَخْبَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ، وَتَارَةً بِشَهَادَةِ غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ لَهُ،
وَتَارَة بِرِوَايَتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَاعًا أَوْ مُشَاهَدَةً مَعَ الْمُعَاصَرَةِ.
مقتطفات كتاب اختصار علوم الحديث 8
فَرْعٌ
فَأَمَّا إِذَا قَالَ الْمُعَاصِرُ الْعَدْلُ ”أَنَا صَحَابِيٌّ” فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ: احْتَمَلَ الْخِلَافَ،
يَعْنِي; لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، كَمَا لَوْ قَالَ فِي النَّاسِخِ: ”هَذَا نَاسِخٌ لِهَذَا” لِاحْتِمَال خَطَئِهِ فِي ذَلِكَ.
أَمَّا لَوْ قَالَ: ”سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَذَا” أَوْ ”رَأَيْتُهُ فَعَلَ كَذَا”، أَوْ ”كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ”، وَنَحْوَ هَذَا، فَهَذَا مَقْبُولٌ لَا مَحَالَةَ، إِذَا صَحَّ السَّنَدُ إِلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّنْ عَاصَرَهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إرسال تعليقك عن طريق :